قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [1].
ولما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف في الجنود، الذي تصدر كلها عن أمره، ويستعملها فيما شاء فكلها تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم، أو يحله قال النبي صلي الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسدُ كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» [2].
فهو ملكُها، وهى المنفذة لما يأمرها به، القابلة لما يأتيها من هديه، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدر عن قصده نيته، وهو المسئول عنها كلها، لأن كل راعٍ مسئول عن رعيته: كان الاهتمام بتصحيحه، وتسديده، أولى ما اعتمد عليه السالكون، والنظر في أمراضه وعلاجها أهم ما تنسك به الناسكون.
لما كان القلب يوصف بالحياة وضدها، انقسم بحسب ذلك إلى ثلاثة أقسام: القلب الصحيح أو السليم، والقلب الميت، والقلب المريض.
1- القلب الصحيح:
هو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا مَنْ أتى الله تعالى به، كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [3].
وقيل في تعريفه: إنه القلب الذي سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، فخلصت عبوديته لله تعالى، إرادة ومحبة، وتوكلًا، وإنابة، وإخباتًا وخشية، ورجاء، وخلص عمله لله، فإن أحبَّ أَحَبَّ في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل مَنْ عدا رسوله فيعقد قلبه معه عقدًا محكمًا على الإتمام والاقتداء به وحده، دون كل أحد في الأقوال والأعمال، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول، ولا عمل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [4].
2- القلب الميت:
وهو ضد القلب السليم، فهو لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره، وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته، ولذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، فهو لا يبالى إذا فاز بشهوته وحظه رضى ربه أم سخط، فهو متعبد لغير الله، إن أحب أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وأن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه، فهواه آثر عنده، وأحب إليه من رضى مولاه، فالهوى إمامه والشهوة قائده، والجهلُ سائقه، والغفلةُ مركبهُ، فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور، ينادى إلى الله وإلى الدار الآخرة من مكان بعيد فلا يستجيب للناصح، ويتبع كل شيطان مريد، الدنيا تسخطه وترضيه، والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه، فمخالطة صاحب هذا القلب سقم ومعاشرته سمّ، ومجالسته هلاك.
3- القلب المريض:
قلب له حياة وبه علة تمده هذه مرة وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله تعالى، والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه، ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات، وإيثارها، والحرص على تحصيلها، والحسد والكبر، والعجب، ما هو مادة هلاكه وعطبه، فهو ممتحن من داعيين: داع يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة، وداع يدعوه إلى العاجلة، وهو إنما يجيب أقربهما منه بابًا، وأدناهما إليه جوارًا.
فالقلب الأول: حيّ، مخبت، لين واع.
والثاني: يابس، ميت.
والثالث: مريض، فإما إلى السلامة أدنى، إما إلى العطب أدنى.
------------------
[1] الإسراء من الآية: 36.
[2] جزء من حديث رواه البخاري (1/ 126) الإيمان، ومسلم (11/ 27، 28) المساقاة والمزارعة وأول الحديث: «إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن».
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للمحرمات واتقائه للشبهات بحسب صلاح قلبه فإن كان قلبه سليمًا ليس فيه إلا محبة الله وخشية الوقوع فيما يكرهه صلحت حركات الجوارح كلها ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها واتقاء الشبهات حذرًا من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتباع الهوى وطلب ما يحبه ولو كرهه الله فسدت حركات الجوارح كلها وانبعث إلى كل المعاصي والشبهات بحسب اتباع هوى القلب (1/ 284، 285) جامع العلوم والحكم بتحقيق الأحمدي أبو النور.
[3] الشعراء: الآية: 88- 89.
[4] سورة الحجرات الآية: 1.
الكاتب: د: أحمد فريد.
المصدر: موقع رسالة الإسلام.